هل تساءلت يومًا ما الذي يجعلنا نرتجف شوقًا، أو نبتسم مرارة، بمجرد أن تداعب عقولنا رائحة عطر قديم، أو نغمة أغنية منسية؟ !
إنه ليس مجرد تذكر عابر، إنه "فلاش باك". هذه اللحظة الساحرة التي يخترق فيها الماضي جدار الزمن الحاضر، لا ليخبرنا ما حدث، بل ليعيدنا إلى هناك بكامل أحاسيسنا ودفء الموقف. إنها غرفة الانتظار السرية التي تحفظ قصصنا، حيث نحن دائمًا في عز مجدنا، أو في أشد لحظات ضعفنا.
اليوم، سندخل هذه الغرفة. استعد لرحلة لا إلى الوراء فحسب، بل إلى الأعماق ! حيث الحكمة تختبئ بين خيوط الشغف القديم.
إن الفلاش باك ليس مستودعاً للذاكرة، بل هو مصفاة للروح. لا تعود لنا الذكريات اعتباطًا! بل تعود لتسلط الضوء على ما كنا، لنفهم بشكل أعمق ما أصبحنا عليه.
كم من قرار مصيري اتخذناه بقلب يشتعل شغفًا؟ الفلاش باك يعيد إحياء هذا الشغف الأولي، سواء كان حلمًا مهنيًا كنا نظنه مستحيلاً، أو حبًا كنا نعتقد أنه الأبدي. الحكمة هنا ليست في الندم على ما انطفأ، بل في تذكر قوة هذا الوهج الأول. هذا التذكر يمنحنا قوة دافعة، ويذكرنا بأن قدرتنا على الشعور والشغف لم تختفِ، بل ربما كانت بحاجة إلى شرارة لتعود للحياة. هذه الشرارة هي ذاتها حرارة الذكرى.
حكمة التجربة
الذكريات المؤلمة هي الأكثر تأثيرًا، وهي أغنى بالدروس. "الفلاش باك" إلى خذلان، أو فشل مدوٍ، قد يوجع الروح، لكنه في الحقيقة يقدم لنا هدية التأمل في قوة التحمل. عندما تسترجع تلك اللحظة، لن تعود إليها كشخص ضحية، بل كشخص نجا وتجاوز.
وتلك حكايات ترويها الأجساد قبل الألسنة.
كمثال على ذلك أنا وجدت نفسي حبيسة السرير لشهور، بعد كسر مضاعف في القدم. ألمٌ وعجزٌ طويـل كان كفيلاً بأن يكسر روحي قبل جسدي . ولكن في غمرة ذاك العجز، أضاء نور الإيمان بأن ما أصابني هو تقدير من الله وحكمة كامنة. وتحول الألم إلى حافز تحدي الذات. كان القرار أن اخوض اختبار رخصة القيادة ورجلي اليمنى ما زالت مكبلة بالجبس حتى الركبة. لم يكن القصد أن اكون سائقة، بل أن اختبر أن قوة الإرادة أعلى من أي عائق جسدي. ولله الحمد، كانت الرخصة من أول اختبار. إثبات صارخ على أن الوهن ليس في العظام، بل في العزيمة.
تلك الدموع علمتك قيمة الوضوح. تلك الخسارة علمتك قيمة الاكتفاء. الحكمة تتجسد عندما نرى أنفسنا القديمة تتألم، فنعرف كم أصبحنا أقوياء، وكم كان هذا الألم ضروريًا لصهْر شخصيتنا الحالية.
الحاضر هو قمة التراكم
كل فلاش باك هو رسالة موجهة إلى "أنت" الحاضر. يقول لك: "أنت لست وليد اللحظة. أنت حصيلة كل تلك التجارب، مزيج من هذا الشغف وتلك الحكمة." إن الإحساس الجذاب في العودة هو أننا نرى سلسلة الأحداث التي شكلت وجهنا الحالي، وندرك أن أعمق جراحنا هي الآن أعظم مصادر قوتنا.
تذكر ماضيك ليس قفصًا، بل هو الجذور التي تجعلك تنمو بثبات.
لقد أغمضنا أعيننا للحظات، وعدنا إلى هناك، إلى تلك الأماكن التي ما زالت تحتفظ بقطعة منا. فلاش باك قد يكون ثانية، أو قد يستغرق العمر كله، لكنه دائمًا يترك خلفه غبارًا ذهبيًا من الشعور.
الإحساس الجذاب والمؤثر هو التالي ، لا تبحث عن مفتاح سعادتك في الأبواب المستقبلية المغلقة، بل ابحث عنه في الغرف الخلفية المضيئة بذكرى جميلة، أو المؤلمة بدرس عميق. لأن الحاضر ليس سوى النقطة التي يتقاطع فيها الماضي بكل ثقله وحكمته، مع المستقبل بكل احتمالاته وأحلامه.
ختامًا
الـ "فلاش باك" الحقيقي ليس تذكرًا لما حدث، بل هو "احتفال" بالروح التي تمكنت من العبور والوصول إلى هنا.
عُد الآن إلى حاضرك بقوة جديدة، فقد أصبحت أكثر حكمة وأشد شغفًا، لأنك تذكرت من أين أتيت.



